الأدب ليس كلمات تقال، وجملة توضع، بل إنه تعبير عن الواقع الذي يمر به الكاتب، ومرآة لما يشعر به، ونسيج ينسج عليها أخيلته. فإن الأدب يعكس عن المشاعر التي يمر بها الإنسان، والمجتمع الذي يعيش فيه، والبيئة التي تحيط به، والظروف التي تتعرض له، وحتى كل ما يخلف من آثاره في حياة الإنسان من الهم والحزن، والفرح والطرب، والفقر والغناء، وغيرها من مشاعر أخرى.
فمن العوامل التي تؤثر في تطور الأدب ورقيه هي كما يلي:
المشاعر النفسية: المشاعر النفسية من أقوى العوامل وأكثرها تأثيرا في خلق نص أدبي، لأن الأديب يعبر عن المشاعر التي تختلج بباله، والأحاسيس التي تتأجج في قلبه، والعواطف التي تتهيج فيه، فإنه ينقل العالم الذي يحمله بداخله إلى الآخرين ليجعلهم يشعرون ما شعر به، ويعيشون ما عاشه. فإن الأدب يعكس -قبل كل شيء- ذات الأديب وخواطره وعواطفه، حيث إنه مرآة القلب، وصوت الوجدان، وصدى العاطفة. فالأديب يتأثر بالمشاعر التي تتهيج في وجدانه، وتتأجج في داخله، ثم ينقلها إلى الآخرين حتى يكون صوتا لأحاسيس الجمهور، وصدى لعامة الناس.
البيئة: المكان الذي يعيش فيه الكاتب، والمجتمع الذي يقضي فيه حياته، والطبيعة التي تتوفر له، والمناخ الذي يحيط به، كلها تؤثر في تكوين الذوق لدى الكاتب، وتغذيته، وتطويره. فمن يعيش في الصحراء القاحلة، يكتب بلغة قاسية شديدة تشبه الرياح العاتية التي تهب وتحمل معها الرمال. ومن يعيش قرب البحر أو الأماكن الخصبة السهلة، يكتب بلغة لينة تشبه الماء الرقراق الذي ينحدر من أعلى الجبال إلى وهادها. ”فليس من يعيش بين العلماء كمن يعيش بين الجهلاء، ولا من نشأ في بيت كريم كمن نشأ بين السوقة والسفلة.“ (مقدمة لدراسة بلاغة العرب لأحمد ضيف، ص ٨٣)
ولذا تصور أشعار العصر الجاهلي تصويرا صادقا للبيئة القاسية، والمناخ الصحراوي، والمجتمع القبلي، والحياة البدوية.
قال أحمد الشايب: ”هذه الأمة العربية كانت في الجاهلية تحيا حياة بدوية صحراوية تمتاز بالفقر والخشونة والضرب في جوانب هذه الفيافي وبالعصبية القبلية، والحروب المطردة، والبداوة الثقافية، فكان الأدب أو الشعر الجاهلي خشن الألفاظ، بدوي الخيال، يتخذ عناصره من الجبال والوعول والدواب والرمال…من رجاله أمثال الشنفري وتأبط شرا والسليك بن سلكة. هؤلاء الصعاليك الذين مثلوا نزعات جاهلية طريفة لا توجد إلا في مثل الصحارى العربية.“ (أصول النقد الأدبي لأحمد الشايب، ص ٨٤)
يقول الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في معلقته ويصف البيئة الجاهلية:
ترى بعر الآرام في عرصاتها
وقيعانها كأنه حب فلفل
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
على الذبل جياش كأن اهتزامه
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
درير كخذروف الوليد أمره
تقلب كفيه بخيط موصل
يقول الشاعر الأندلسي ابن خفاجة في وصف الطبيعة الأندلسية:
وخيرية بين النسيم وبينها
حديث إذا جن الظلام يطيب
لها نفس يسري مع الليل عاطر
كأن له سرا هناك يريب
يدب مع الإمساء حتى كأنما
له خلف أستار الظلام حبيب
ويخفى مع الإصباح حتى كأنما
يظل عليه للصباح رقيب
ويؤثر الزمان تأثيرا بالغا في نشأة الأدب ورقيها، حيث يتغير الأدب بتغير الزمان. فتتحول حالة العسر إلى اليسر، والفقر إلى الغنى، والركود إلى النهضة، والجهالة إلى التقدم، وكل هذه تؤثر الأدب. ولذا يختلف الأدب في العصر الجاهلي عن الأدب في العصر الإسلامي، كما يختلف الأدب في العصر الأموي عن الأدب في العصر العباسي.
قال عز الدين إسماعيل: ” الأدب كائن حي متجدد الحيوية، متجدد الحرارة… إن النبات والحيوان والإنسان جميعا تتكيف بحسب البيئة التي توجد فيها، وهذه القدرة على التكيف مرجعها إلى المرونة التي يتمتع بها كيانها وتتمتع بها شخصياتها. وهي كلما اختلفت عليها الأزمنة والأماكن راحت تتكيف مع البيئة الجديدة.“ (الأدب وفنونه دراسة ونقد لعز الدين إسماعيل، ص ١٧)
الاتصال: ومن أهم العوامل ما يؤثر في الأدب ورقيه هو الاتصال الذي يحصل باتصال الثقافات الأخرى، واختلاط الشعوب الأخرى، وذلك من خلال التجارة، والحروب، والمصاهرة، والتقليد وغيرها. فكثيرا ما نجد الأشياء التي كانت تفقد في أي شعب او ثقافة استفادتها من ثقافة أخرى بسبب الاتصال الثقافي والحضاري. وقد تجلى أثر هذا الاتصال في العصر العباس بشكل واضح، حين تطورت العلوم مثل الطب، والفلسفة، والكيمياء، والفيزياء وما إلى ذلك. فمن العوامل الرئيسية التي دفعت هذه العلوم تتطور وتنمو في العصر العباسي هي احتكاك العرب بالعجم، وترجمة الكتب من الثقافات المختلفة إلى اللغة العربية، وبالخصوص تأسيس بيت الحكمة التي اهتمت بترجمة الكتب من الثقافات المختلفة وساعدت في تطور العلوم وازدهارها.
وكذلك الأمر في النهضة الحديثة في مصر، حيث استفاد العرب بغزو نابليون بونابرت على مصر، الذي حمل معه المطابع، والمكتبات، والمعارف الجديدة، كما اطلعوا على أنواع الفنون الحديثة مثل القصة القصيرة والرواية والمسرحية، مما ساهم في نشوء الأدب العربي الحديث وتطوره.
مسألة الجنس: ينشأ الإنسان في بيئة خاصة بوطنه وجنسيته، ويكتسب الخواص والطبائع المختصة بأرضه ووطنه. فإن الوطن هو المكان الذي يحتضنه الإنسان منذ مولده، يتأثر بمناخه، وطبيعته، ومجتمعه. وتؤثر هذه الأشياء في طريقة تفكيره وأسلوب حياته، حتى في الأدب الذي يخلقه. قال ساطع الحصري: ”إن طبائع الأمم وسجاياها من الأمور الفطرية التي تحدث بطبيعتها، فكل أمة مجبولة على بعض الطبائع الخاصة بها، ومفطورة على بعض السجايا المميزة لها، فاختلاف الأمم في الطبائع والسجايا، إنما هو نتيجة طبيعية لاختلافها في الخلقة والفطرة.“ (دراسات عن مقدمة ابن خلدون لساطع الحصري، ص ٢٧٧)
والإنسان ثمرة جنسه ووطنه، فإنه يعرف ما يقع عليه نظره منذ طفولته، ويتأثر بما يسمعه. فتترسخ فيه الطبائع الخاصة بجنسه، وتتأصل. ذكر الناقد أحمد ضيف عن اختلاف هذه الطبائع والسجايا التي يمتلكها الإنسان من وطنه وأرضه، وتأثيره في الشخصية:
”النوع اللاتيني في جملته يميل إلى الرقة ولين الأخلاق ودقة الفهم في الفنون الجميلة، ويحب الحرية في كل شيئ، ولا يرغب كثيرا في التقيد بالقوانين والقواعد حتى في العلوم، حساس كثير الخيال، خفيف الروح، يميل إلى المجون، وله صبغة خاصة في الفنون كالموسيقي والتصوير، فإنها عند الإيطاليين والفرنسويين أدق وأخف على النفس منها عند الجرمانيين، وهي أمتن وأبرع في الصناعة وأضخم عند الجرمانيين منها عند جيرانهم.“ (مقدمة لدراسة بلاغة العرب لأحمد ضيف، ص ٨٩)
ولو نمعن النظر في اختلاف الطبائع والسجايا باختلاف الأجناس والأوطان، لندرك أن لكل أمة طبائع خاصة، وسمات متميزة. فالعرب كانوا حساسين، يميلون إلى القلب أكثر من العقل، يشعرون أكثر من أن يفكروا، فتطورت فيهم الفنون الوجدانية، وعلى رأسها الشعر حيث كان تعبيرا عن الأحاسيس وبيانا للمشاعر في أدق صورة وأبلغ صياغة. وإن اليونانيين كانوا يميلون إلى العقل أكثر من القلب، يفكرون أكثر من أن يشعروا، يزنون جميع الأشياء بميزان العقل والحكمة، فتطورت فيهم العلوم، وبالخصوص المنطق والفلسفة.
الدين: للدين علاقة وثيقة ومتينة بالأدب حيث يتسم الأدب بالمحاسن الحميدة، ويهذب النفوس، ويدعو إلى مكارم الأخلاق. وغاية الدين هي كما ذكر نجيب الكيلاني: ”مادة الدين هي الحياة والنفس الإنسانية، ومقومات الدين الصادق المنزل من عند الله هي الصدق والأصالة والمثل العليا التي تتوائم مع واقع الحياة وتتطور معها وتشبعها بالسعادة والحب والإخاء والعدالة والحرية.“ (الإسلامية والمذاهب الأدبية لنجيب الكيلاني، ص ١٤)
فتأثير الدين في الأدب أمر ثابت قاطع، وله تاريخ قديم حيث أثر الدين في الفنون القديمة في مختلف الثقافات مثل اليونان والإغريق والهند وغيرها.
قال نجيب الكيلاني: ”إن الفنون القديمة لم ترتبط بالدين فحسب، بل إن الدين قد شكل حياتهم كلها، وصبغ تقاليدهم وتصرفاتهم، وشكل مثلهم العليا حتى كان الدين هو الحياة.. الحياة تلك القنطرة التي تنقلهم إلى عالم الخلود اللامتناهي.“ (الإسلامية والمذاهب الأدبية لنجيب الكيلاني، ص ١٧)
وهكذا يؤثر الأدب في الدين بسبب اتفاقهما في الهدف، ومماثلتهما في الغرض، وتقاربهما في المعنى، فكلاهما يسعى إلى إيصال القيم والمثل العليا إلى الأخرين لتهذيب النفوس وتوعية المجتمع.
الأحوال السياسية والاجتماعية: تقوم الأحوال السياسية والاجتماعية بدور عميق وفعال في الأدب، حيث يعكس الأدب المجتمع الذي ظهر فيه الأدب، فتنعكس فيه الظروف السياسية والاجتماعية التي تسود وتشيع في ذلك المجتمع. يسعى الأديب إلى نشر الوعي السياسي والثقافي في المجتمع، وكفاح الظلم والفساد، ونضال ضد القوى الاستبدادية، والدفاع عن الشعب، والدعوة إلى العدول والمساواة. فإن الشعراء في العصرين الأموي والعباسي نظموا الشعر السياسي، وشكلوا دورا هاما في سياسة ذلك العصر. وفي العصر الحديث نجد عديدا من المجلات والجرائد التي تناولت القضايا السياسية وعالجت مشاكل المجتمع مثل وادي النيل، ونزهة الأفكار، والتجارة، والأهرام، والوطن وما إلى ذلك.
قال الشاعر اللبناني إبراهيم اليازجي:
تنبهوا واستيقظوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
كم تظلمون ولستم تشتكون وكم
تستغضبون فلا يبدو لكم غضب
فشمروا وانهضوا للأمر وابتدروا
من دهركم فرصة ضنت بها الحقب
قال معروف الرصافي:
أنا بالحكومة والسياسة أعرف
أألام في تفنيدها وأعنف
تشكو البلاد سياسة مالية
تجتاح أموال البلاد وتتلف
تجني ضرائبها الثقال وإنما
في غير منفعة الرعية تصرف
التقليد: التقيد جزء لا يتجزأ من الأدب حيث يقلد الشعب الأمم السالفة المتطورة، ويتبع بالمناهج والطرق التي اتبعها الأسلاف للنمو والتقدم في أي مجال من مجالات الحياة. فيقلد الكتاب والشعراء المعاني التقليدية، والموضوعات القديمة في كتبهم وقصائدهم. تحدث أحمد أمين عن التقليد وتأثيره في نمو الآداب المختلفة وتطورها: ”إنما استفاد الأدب العربي من التقليد في فن الحكايات والأمثال حين ترجم ابن المقفع وبعض الكتاب شيئا من القصص الفارسي ككلية ودمنة وهزار افسانه ودارا والصنم الذهب، فكان ما ترجموه حديا للعرب ونموذجا لهم في وضع ما وضعوه منها. أما الأدب الفارسي والأدب التركي فهما صنيعة التقليد ونفحة من نفحات الأدب العربي. (أحمد حسن الزيات، ”العوامل المؤثرة في الأدب“ مجلة الرسالة، العدد 1، 4 مارس 1933م)
وخلاصة القول أن كل ما يحيط بنا من البيئة والمناخ، ويؤثر فينا من الظروف والأحوال، ويبعث فينا من المشاعر والخواطر، يكون من باب العوامل للأدب، إذا كان تعبيرا صادقا لها وترجمانا حقيقيا.
المصادر والمراجع:
- أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي
- أحمد ضيف، مقدمة لدراسة بلاغة العرب
- ساطع الحصري، دراسات عن مقدمة ابن خلدون
- نجيب الكيلاني، الإسلامية والمذاهب الأدبية
- أحمد حسن الزيات، العوامل المؤثرة في الأدب العربي، مجلة الرسالة، العدد 4









