المسلمون لهم خدمات جليلة، وجهود بارزة، في بناء الهند وصياغة مستقبلها. فإنهم قدموا تضحيات عظيمة، وسقوا بدمائهم شجرة الحرية حتى أينعت ثمار الاستقلال. ومن أوائل الذين رفعوا راية النضال ضد القوة الاستعمارية البريطانية، والنظام الأجنبي المستبد هو سلطان علي خان، الشهير بتيبو سلطان، حاكم مملكة مسيور، في جنوب الهند. وقد اشتهر بمقولته يتداولها اللسان وتبقيها الأيام: ”يوم من حياة الأسد خير من مئة سنة من حياة ابن آوى“، كما عرف بابتكاره أول صاروخ من الحديد في الهند.
لقد كان تيبو سلطان أشد أعداء الإنجليز، وأعداهم بغضا لهم، وأبرز المدافعين عن بلاده. فإنه كان أكبر حاجز في سبيل الإنجليز وأشد منافس لهم حتى حينما تنفس أنفاسه الأخيرة ووافاه الأجل، فقال الجنرال البريطاني، هارس وهو واقف عند جثمانه: ”من هذا اليوم، الهند لنا“. وقال الحاكم البريطاني، ويلزي حينئذ: ”لا يجترئ أحد من حكام الهند وأمرائها علينا بعد موت تيبو“.
وما انقضى عهد حاكم ميسور حتى اشتدت سيطرة الإنجليز على الهند، فأصبح الناس يشعرون بالخطر والتهديد على هويتهم وثقافتهم، فأدرك العلماء المسلمون هذا الخطر ويعدون أنفسهم لكفاح هذا الاستعمار المتزايد. وكان أول من اعتبر الهند دار الحرب حينئذ، وأصدر فتواه التاريخية للجهاد ضد البريطانيين هو الشاه عبد العزيز، خليفة الشاه ولي الله الدهلوي. فكانت هذه الفتوى مهدت السبيل للحركات والاتجاهات التي تلتها في الهند. وقد وردت هذه الفتوى أصلا باللغة الفارسية في ”فتاوى عزيزية“، ص ١٦-١٧.
وقدّر المؤرخ الهندي الشهير، البروفيسور خليق أحمد نظامي هذه الفتوى التاريخية قائلا: ”اتخذ الشاه عبد العزيز أول خطوة مؤثرة ضد الحكم الخارجي بعد أن حكم على الهند بأنها دار الحرب. ولا يفهم أهمية هذه الفتوى إلا الذين يدركون دار الحرب في معناها الحقيقي، بالإضافة إلى أثر أسرة الشاه ولي الله في سياسة الهند“. (۱۸۵۷ء کا تاریخی روزنامچہ لخليق أحمد نظامي، ص ۱۱)
وقد مهّدت هذه الفتوى الطريق لحركات عملية، كان أبرزها حركة السيد أحمد بن عرفان الشهيد، الذي ولاه الشاه عبد العزيز إمارة جماعة المجاهدين التي أعدها لكفاح الاستعمار البريطاني. فإن السيد أحمد الشهيد قام بدور كبير في إصلاح المجتمع، ونضاله ضد البريطانيين. وقام برحلتين مهمتين في حياته، فأولهما رحلته إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، حيث خرج من بلدته، راي بريلي مرورا بعدد من المدن والقرى مثل مرزابور، وبنارس، وكلكتا. وفي أثناء رحلته، دعا الناس إلى الله، وأصلح عقائدهم، وذكرهم بالعقيدة الربانية السليمة.
وفي رحلته الثانية، عزم على إعداد الجماعة للجهاد وإكمال الحلم الذي طمح إليه الشاه عبد العزيز، فحث الناس على الجهاد، ودعاهم إلى الانضمام إلى جماعته، حتى خرج على رأس جماعة من المسلمين، كان في مقدمتهم الشيخ اسماعيل الشهيد والشيخ عبد الحي، غربا باتجاه السند، مرورا ببلوشستان، وأفغانستان، وقندهار، حتى بلغ بيشاور، حيث أسس أول معسكر للمجاهدين. وبعد الحرب الدامية بين المسلمين والسيخيين، أسس أحمد الشهيد حكومة إسلامية على منهاج الكتاب والسنة في ١٨٢٦م، وحكمها بكل أمن وسلام. لكن سرعان ما اندلعت الحرب القاسية بين الطرفين من جديد، وكان الإنجليز يمدّون السيخ بالأسلحة والجنود لكي لا تصل جذوة الجهاد إليهم. وفي عام ١٨٣١م استشهد أحمد بن عرفان الشهيد في بالاكوت، إلى جانب رفيقه الشيخ الشاه اسماعيل الشهيد.
لقد كانت الحركة الإسلامية التي قادها السيد أحمد بن عرفان شهيد من أعظم الحركات التي قاومت الاستعمار البريطاني سياسيا، ودينيا، وإصلاحيا، وثقافيا. وقد وصفها الشيخ السيد محمد ميان: ”إن هذه الجماعة من المجاهدين لم يوجد لها نظير في التاريخ بعد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فتجددت ذكرى الصحابة وأضافت صفحة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية والتجديد الإسلامي“. )علماء هند كا شاندار ماضي لسيد محمد ميان، ج ٢، ص ١٩)
وإن الجهود الجبارة التي بذلها هؤلاء العلماء الكبار في تحرير الهند لم تخمد نيرانها، بل ازدادت اشتعالًا مع مرور الأيام. فالعلماء من شتى بقاع الهند أخذوا يخطبون، ويجلجلون، ويحثون على الكفاح والنضال ضد القوة الاستعمارية، حتى أصدر العلامة فيض الحق الخير آبادي فتوى بالجهاد ضد الإنكليز، فأوقدت روح المقاومة من جديد، وجعلت أصوات الناس تعلو في أرجاء البلاد حتى اندلعت ثورة ١٨٥٧. وكان المسلمون في الصفوف المتقدمة، ويقودون هذه الثورة. وقد اعترف المؤرخ البريطاني، وليم هنتر نفسه بذلك وقال: ”إن جمرات الجهاد التي أشعلها السيد أحمد شهيد، هي التي ألهبت نار هذه الثورة“. (المسلمون في الهند لأبي الحسن علي الندوي، ص ١٧٩)
وكان الإنجليز يعتقدون أن المسلمين هم الذين قادوا هذه الثورة، وأوقدوا نيران الحرب ضدهم كما قال الكاتب الإنجليزي، هينري ميد: ”إن الثورة لا يصح في المرحلة الحاضرة أن تسمى ثورة الجنود، لقد انفجرت الثورة منهم، ولكن سرعان ما تجلت حقيقتها وظهر أنها ثورة إسلامية“. (المسلمون في الهند لأبي الحسن علي الندوي، ص ١٨٤)
فإن المسلمين دفعوا أبهظ ثمن وأغلاه في ثورة ١٨٥٧، فقد أصدر الاحتلال عليهم أحكامًا جائرة، وزجّ بهم في السجون، وقتلهم بوحشية، وعرضهم لأبشع صور الظلم والنهب والاضطهاد. حتى اكتظت الشوارع بالجثث المتراكمة، وامتلأت الطرق بالأنقاض المتتالية، وتحولت دلهي من عاصمة زاهية إلى مدينة خاوية كالغابة الموحشة. وقد وصف المؤرخ، السيد كمال الدين حيدر هذه الكارثة: ”إن سبعة وعشرين ألفا من المسلمين قتلوا شنقا، واستمرت المجزرة سبعة أيام متتاليات لا يحصى من قتل فيها، أما السلالة التيمورية فقد حاول الإنجليز أن يستأصلوا شأفتها، فقتلوا حتى الصبيان، وعاملوا النساء معاملة همجية تقشعر منها الجلود“. (قيصر التواريخ للسيد كمال الدين حيدر، ص ٤٥٤)
قال أبو الحسن الندوي: ”وقد كان من أكبر العلماء والمشائخ الذين قادوا الثورة وأشهرهم مولانا أحمد الله، ومولانا لياقت علي، وهما اللذان تزعما الحركة، وكان الجنرال بخت خان هو القائد العام ونائب الملك ، وكان للحاج إمداد الله التهانوي، ومولانا محمد قاسم النانوتوي، ومولانا رشيد أحمد الكنكوهي، والحافظ محمد ضامن الشهيد، وغيرهم من العلماء والمشائخ“. (المسلمون في الهند لأبي الحسن علي الندوي، ص ١٧٩)
وهكذا استمر مسلسل التعسف الإنجليزي على أبناء الهند بصفة عامة، وعلى المسلمين بصفة خاصة في مختلف المناطق مثل بتنه وبنغال وغيرها. وفي عام ١٨٨٤م، تأسس المؤتمر الوطني، وساهم فيه شخصيات بارزة مثل بدر الدين طيب جي، ومير همايون جاه، ورحمت الله سياني، وعبد القادر اللدهيانوي، ولطف الله العليكرهي.
وفي تلك الأثناء، تصاعدت الجهود الرامية إلى تحرير الهند، فقام العلماء الكبار في سبيلها ولعبوا دورا محوريا في مقاومة الاستعمار. فإن شيخ الهند، محمود حسن الديوبندي بدأ حركة الرسائل الحريرية التي انضم إليها نخبة من كبار العلماء، ومن أبرزهم: مولانا عبید الله السندهي، ومولانا سيف الرحمن، ومولانا أحمد علي اللاهوري، ومولانا سيد هادي علي، ومولانا عزيز كل بشاوري، ومولانا منصور الأنصاري، ومولانا ظهور محمد خان، ومولانا غلام محمود، ومولانا أبو الحسن تاج محمود، ومولانا محمد صادق كرانجوي، ومولانا فضل ربي، ومولانا محمد أكبر، ومولانا فضل محمود، ومولانا أحمد جكوالي، وشاه عبد الرحيم رائفوري، ومولانا محمد مبين الديوبندي، ومولانا عبد الباري الفرنجي محلي وغيرهم من أعلام الهند.
وكانت هذه الحركة من أبرز المبادرات المناهضة للاستعمار البريطاني، فنفي محمود حسن الديوبندي في عام ١٩١٧م إلى جزيرة مالطة بسبب جهوده في كفاح الاستعمار البريطاني، مع أصحابه مولانا عزيز كل، والحكيم نصرت حسين، والأستاذ وحيد أحمد. حيث قضوا حوالي ٣ سنوات في المنفى، حتى أطلق سراحهم في عام ١٩٢٠م.
وفي عام ١٩١٩م، أطلق مولانا محمد علي جوهر، وأخوه مولانا شوكت علي حركة الخلافة، دفاعا عن الخلافة العثمانية وكفاحا ضد الاستعمار البريطاني. وقد شارك فيها قادة المسلمين البارزين، منهم مولانا أبو الكلام آزاد، وحكيم أجمل خان، ومولانا ثناء الله الأمرتسري، ومفتي کفایة الله الدهلوي، ومولانا سید محمد فاخر، ومولانا سید سلیمان الندوي، ومولانا أحمد سعید الدهلوي وغيرهم.
كذلك، أصدر المسلمون الصحف والمجلات، ونشروا فيها المقالات التعليمية والإصلاحية والسياسية. فأصدر مولانا أبو الكلام آزاد صحيفتي الهلال والبلاغ، كما أصدر محمد علي جوهر صحيفة كومريد باللغة الإنجليزية. ولم يقتصروا على هذا، بل ألفوا الكتب، ونظموا القصائد في مجالات متعددة داعين الناس إلى الإصلاح والمشاركة في النضال ضد الاستعمار البريطاني.
وإلى جانب هذا النشاط الفكري والأدبي، برزت جهود المسلمين في السياسة والإصلاح، فكان تأسيس جمعية علماء الهند عام ١٩١٩م علامة فارقة في مسيرة التحرير. فاهتمت الجمعية بمعالجة القضايا السياسية والاجتماعية والدينية للبلاد، وأسهم أعضاؤها بدور بارز في مقاومة الاستعمار. ومن أبرز قادتها: مولانا محمود حسن الديوبندي، ومولانا كفاية الله، والحاجّ محمد إسحاق ، ومولانا نور الحسن، ومولانا آزاد سبحاني، ومولوي إكرام خان، ومولانا محمد سجاد، وحكيم أجمل خان وغيرهم.
فبالفعل، قدم العلماء المسلمون تضحيات جسيمة وجهودا مشرقة في كفاح الاستعمار البريطاني وتحرير بلاد الهند. فكثير منهم نفوا إلى الجزر المختلفة، وكثير منهم سجنوا لمدى الحياة، وكثير منهم قتلوا بالرصاص. فإن التاريخ شاهد على أن العلماء المسلمين جمعوا بين العلم والعمل، فامتزجت خطبهم ودروسهم بصرخات النضال، واتحدت أقلامهم مع سيوفهم في مواجهة الطغيان. وشاركوا في الميدان السياسي بالقيادة والتوجيه، وفي الميدان الإصلاحي بنشر الوعي وإحياء روح المقاومة، وفي الميدان العملي بوضع الخطط والتدابير التي مهدت لنهضة الأمة وسارت بها نحو الاستقلال. وبذلك يبقى دور العلماء المسلمين في تحرير الهند صفحة ناصعة في سجل التاريخ، ودليلًا خالدًا على تضحياتهم الجسيمة، وجهودهم الصادقة، في حرية البلاد واستقلالها.