الأدب مرآة تعكس المجتمع، وأداة تجسد الحياة. فإن الحياة بكل مظاهرها من إنسان وحيوان وجماد قد تأتي ضمن إطار الأدب، إذا وصفت بأوصاف دقيقة، وصورت بتصاوير خلابة، وصيغت بقوالب جميلة تبعث فينا الانفعالات، وتنقل إلينا الأحاسيس، وتهز المشاعر، وتحرك الوجدان. فالأدب لا يقتصر على الفنون التي تؤثر فينا شعورا فحسب، بل يشمل المجالات الأخرى أيضا من العلم والمعرفة، متى ما تكون في صورة موحية تؤثر وجداننا، وتجيش عاطفتنا. يقول سيد قطب، في كتابه: ”إنما التصوير المعبر الموحي، والانفعال الناشئ عن هذا التصوير، هما اللذان يحددان موضع التعبير: إن كان في فصل الأدب، أو في فصل العلوم، أو فصل الفلسفات“. (النقد الأدبي أصوله ومناهجه-سيد قطب، ص ١٢)
لغة: الأدب هو الدعوة إلى الطعام، كما يقال: أدب أصحابه، أي دعاهم إلى الطعام. وقد ورد هذا المعنى في الشعر العربي. قال طرفة بن العبد:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر
وقال الشاعر ابن الرومي:
ليس من يأدب إخوانه
مؤدبا للقوم بل آدب
واصطلاحا: الأدب هو الدعوة إلى المحاسن والمحامد، فقد انتقل معناه من الدعوة إلى الطعام، إلى معنى أسمى يتمثل في الدعوة إلى المحاسن والمحامد، ومنه جاء لفظ التأديب. وقد سمى ابن المقفع كتابيه الأدب الصغير والأدب الكبير إذ يشتملان على القوانين والقواعد التي تهذب النفس وتسموا بالخلق. قال أبو منصور الأزهري: ”الأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمي أدبا لأنه يأدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح“. (تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري، ج ١٤، ص ٢٠٩)
فإن كثيرا من الأدباء والنقاد عرفوا الأدب بطرق مختلفة. قال شوقي ضيف: ”الأدب في حقيقته مرآة ناصعة صافية تنعكس عليها حياة أهله وما تأثروا به من أحداث عامة وظروف خاصة“. (الأدب العربي المعاصر-شوقي ضيف، ص ١١) وعرفه أحمد أمين: ”التعبير عن الحياة أو بعضها بعبارة جميلة“. (النقد الأدبي-أحمد أمين، ص ١٣) ورأى سيد قطب في الأدب: ”التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية“. (النقد الأدبي أصوله ومناهجه- سيد قطب، ص ١١)
وعلى اختلاف هذه التعريفات، فإنها تتوحد في فكرة جوهرية، وهي أن الكلام لا يعد أدبا إلا إذا اجتمعت فيه أربعة عناصر اتفق عليها معظم النقاد، ينفعل به القارئ، ويتأثر به. وإن العناصر الأربعة للأدب هي: الفكرة، والعاطفة، والخيال، والأسلوب.
الفكرة: تعد الفكرة جزءا أساسيا وركنا متينا في كل عمل أدبي حيث ينسج عليها الكاتب أخيلته، ويعرض عليها الشاعر أفكاره، ويقص عليها القاص قصته. فإن الفكرة يقوم عليها البناء الأدبي بأسره، فكلما ازدادت الفكرة عمقا وأصالة، ازداد المعنى وضوحا ودقة. وإن الفكرة هي التي تفرق العلوم والفنون من الموسيقي حيث تكفي الموسيقية والغناء للترف واللذة، ولكن في العلوم والأدب، يجب على الكاتب أن يأتي بأفكار ومعان يأخذها القراء ويستفيدوا بها. ولا يشترط أن تكون الفكرة جديدة، ولكن المهم أنها تثير العاطفة، وتهز المشاعر، وتؤجج الأحاسيس لدى القراء.
العاطفة: إن العاطفة هي حالة شعورية وعاطفة وجدانية تتولد في الأديب إثر حادثة عاشها، أو قصة سمعها، أو مشهد شاهده. فالأدب من غير عاطفة جاف لا روح فيه، لأنها عنصر جوهري يتحلى به الأديب، ويتسم به الكاتب. والعاطفة ليست مجرد انفعال عابر، بل هي شعور متأصل يتشكل في وجدان الأديب ثم يفيض في كلماته، فيتلقاه القارئ ويحس بمشاعر الأديب.كما قال أحمد أمين: ”الأدب أداته العواطف، وهو الذي يحدث عن شعور الكاتب، ويثير شعور القارئ، ويسجل أدق مشاعر الحياة وأعمقها“. (النقد الأدبي-أحمد أمين، ص ٣١).
إن الأديب هو من يكون حساسا يشعر بما يعجز عنه الآخرون، ويرى ما لا تلتقط الأبصار، تتأجج في وجدانه المشاعر، وتتهيج في داخله العواطف. وينبغي للعاطفة ألا تضيق بفرد أو فئة، بل تتسع لتحيط بمشاعر المجتمع وأحاسيس الجمهور. فلو قرض شاعر قصيدة في مدح أي ملك لمجرد شخصه، أو رثاء في شخص لذاته، أو فخر في أي قبيلة خاصة، لكان تأثيره محدودا إلى ذلك الملك، أو الشخص، أو القبيلة، ولا يتجاوزها.
أما إذا قرض شاعر قصيدة في مدح أي ملك استفاد الناس به بسبب هداياه وعطاياه، أو في رثاء أي شخص سالت دموعهم عليه بسبب محامده ومكارمه، أو في فخر لأي قبيلة افتخر الناس بها بسبب مآثرها ومحاسنها، لخلدها الزمان، وأبقتها الأيام. قال أبو البقاء الرندي قصيدته التاريخية في رثاء الأندلس، بكي عليها العالم كله:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
فإن العاطفة هي الظاهرة القوية المؤثرة في الأدب، فهي التي تمكن الأديب من أن يشارك العواطف، ويتقاسم المشاعر، وينقل الأحاسيس إلى الناس، وهذه العواطف -بما تشتمل على البهجة والبكاء، والفرح والحزن، والأمل والتحسر- على اختلاف درجاتها، تتشابه بعضها من بعض، ولا تتغير بتغير الأفراد. ومن هنا يكون الأدب صدى لمشاعر السالفين، وتعبيرا عن أحاسيس اللاحقين.
الخيال: الخيال هو ملكة وجدانية وموهبة نفسية يستطيع الكاتب من خلالها على تصوير الحدث في أبهج صورة وأحسن خيال، مما يثير المشاعر للقراء، ويبعث فيهم نفس المشاعر التي يمر بها. فإن الخيال هو القدرة التي تمثل أمامنا الأشياء العادية المألوفة في ثوب جديد، وتجسد الحوادث في لوحة أدبية فنية. فكلما اتسع الخيال، تتسع المعاني، وتتعمق الأفكار. فمثلا، قولنا: صوتها عذب، كان التعبير مباشرا وعاديا، أما قولنا: عند حديثها تتفتح الزهور، فهذا يكون أكثر إيقاعا وإيحاء ما يوقظ الحس ويثير الوجدان. ونجد قوة الخيال في كثير من الشعراء والأدباء، قال عمر بن ربيعة في حبيبته:
حين شب القتول والجيد منها
حسن لون يرف كالزرياب
أذكرتني من بهجة الشمس لما
طلعت من دجنة وسحاب
فارجحنت في حسن خلق عميم
تتهادى في مشيها كالحباب
وقال الفرزدق في زين العابدين:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته
كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
كذلك قرضت الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدتها الشهيرة ”الكوليرا“، وصورت مشاهد الموت والجوع والضحايا، فإنها تعبر عن مشاعرها وأحاسيسها تجاه الوضع الكارثي الناتج عن الكوليرا، وتشارك وجع الحادثة مع الناس، وتتقاسم مرورة الكارثة معهم. فإن شعرها جاء نابضا بالخيال، ومتدفقا بالعاطفة، تتمثل فيه قوة الخيال، وروعة الجمال، فإنها تقول:
سكن الليل
أصغ إلى وقع صدى الأنات
في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات
صرخات تعلو، تضطرب
حزن يتدفق، يلتهب
يتعثر فيه صدى الآهات
في كل فؤاد غليان
في الكوخ الساكن أحزان
في كل مكان روح تصرخ فى الظلمات
في كل مكان يبكي صوت
هذا ما قد مزقه الموت
الأسلوب: إن الأسلوب هو الوعاء الذي تصاغ فيه العواطف، والسبيل الذي يسلكه الأديب ليترجم ما يختلج ببال الكاتب، فإنه -كما قيل- في الأدب مثل الحجارة في البناء، والخطوط في الصور. يستعين الكاتب في أسلوبه بالتشبيهات والاستعارات، والكنايات والإيحاءات، والمحسنات والإشارات. فكلما يزدان الأسلوب بهذه المحسنات، ينفعل القارئ به، ويتذوق ما ينقله الكاتب إليه. أما إذا ضعف الأسلوب، يعجز الكاتب عن إيصال ما يشعر به إلى الآخرين، ويبقى أثر كتابته باهتا لا روح فيها ولا حياة.
فإن الكلمات والجمل ليست فصيحة في نفسها، وإنما تكتسب فصاحتها من الموضع الذي توضع فيه، فقد تكون الكلمة فصيحة في سياق، وتكون نافرة في سياق آخر، إذا المهم هو أن الكاتب ينسج الكلمات في موضعها الملائم، فتزداد إيقاعا وجمالا.
وقد صاغ طه حسين أخيلته في أسلوب جميل يأخذ بمجامع القلوب: ”لو كنت متخذا إلها لعبدت البحر الذي يروعني ويروعني، أو الشمس الذي تضيء لي أثناء النهار، أو النجوم التي تهديني أثناء الليل، أو السحاب الذي يطعمني ويسقيني. ولكن شيئا من ذلك لا يبلغ نفسي ولا يتحدث إلى قلبي ولا يثير حاجتي إلى العبادة والطاعة والإذعان. فأنا حائر جائر عن القصد، ألتمس الهدى فلا أجد إليه سبيلا، فأعيش مع الناس مشاركا لهم في الدنيا مفارقا لهم في الدين“. (الوعد الحق-طه حسين، ص ١١)
ومن هذا النص المذكور سابقا، ندرك أن الجمال في الأسلوب والقوة في البيان لا تنبعان من كثرة التشبيهات والاستعارات، ولا من غزارة الألفاظ والكلمات، وإنما من الأخيلة التي ينسجها الكاتب، والمعاني التي يصوغها الشاعر، والأحداث التي يجسدها القاص. فكثيرا ما نجد أن نصا يكتظ بالتشبيهات والاستعارات، والكنايات والمحسنات لا يكون أكثر انفعالا في نفوس القارئين. وبينما نصادف نصا يتخلى عن الصور البلاغية، ولكنه يتسم بعلو الخيال، ودقة المعاني، يكون أكثر إيقاعا في وجدان القارئين. قال المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وجوى يزيد وعبرة تترقرق
جهد الصبابة أن تكون كما أرى
عين مسهدة وقلب يخفق
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني
عيرتهم فلقيت فيه ما لقوا
وقال الفرزدق:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
الأدب هو سجل لنشر الأفكار، ومسرح لتقاسم العواطف، وميدان لمشاركة الأحاسيس، ينفعل به القارئون، ويتأثرون به، كأنما عاشوا التجربة ذاتها. فإن الأدب الذي يتسم بالعناصر الأربعة: الفكرة، والعاطفة، والخيال، والأسلوب، هو أدب حي نابض، يثير العواطف، ويهز المشاعر، ويبعث الأحاسيس، وينقل صور الحياة في أبهى معانيها حتى نشعر بما شعر به الكاتب، ونرى بعينه ما رآه، ونحس بوجدانه كما أحس هو. وهكذا يظل الأدب الجيد أصدق تعبير عن النفس الإنسانية، وأبقى سجل للحياة والمجتمع.