المحتوى
المقدمة:
تعد النهضة العربية الحديثة من أهم المراحل في تاريخ الأدب العربي، حيث نهض العرب لتجديد ماضيهم المجيد، وسعوا لإحياء اللغة العربية وإخراجها من الجمود والتعطل الذي كانت تعاني منه منذ القرون. ولعبت النهضة العربية الحديثة دورا ملموسا في إثراء اللغة العربية من خلال دمج الأنواع والفروع الأدبية من الآداب الغربية مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية وما إلى ذلك.
النهضة العربية وتاريخها :
تعرّف النهضة لغة بالتقدم والانبعاث بعد التأخر والركود. واصطلاحا، تعني النهضة في الأدب العربي نفخ روح الرقي والازدهار في العرب، وإخراج اللغة العربية من الجمود والركود الذي كانت تتعرض اللغة العربية منذ سقوط بغداد على يد التتار في عام ١٢٥٨، وإعداد اللغة العربية لمتطلبات العصر الراهن. وإن الفترة الممتدة من هجوم التتار على بغداد عام ١٢٥٨ إلى غزو نابليون لمصر عام ١٧٩٨ تعتبر فترة الركود والانحطاط حيث أصبحت اللغة التركية لغة رسمية للبلاط في الحكم العثماني، وبدأ الملوك العثمانيون يهمشون اللغة العربية نتيجة لعدم اشتياقهم وإلمامهم بالشعر والأدب العربي. فبدأت اللغة العربية تنحدر من مكانتها الرفيعة، وأصبحت محدودة في أماكن العبادة، فإن هذه الحقبة تعتبر حقبة مظلمة خالية من الأعمال الأدبية.
بدأ عصر النهضة بغزو نابليون بونابرت سنة ١٧٩٨ م على مصر، وكانت الحملة الفرنسية أول احتكاك بين مصر والحضارة الأوربية مما أثرت في الثقافة المصرية من الحياة الشخصية إلى الحياة المهنية كما أثرت في الأدب العربي من خلال دخول أنواع جديدة، وأساليب متنوعة، وموضوعات مختلفة. وكانت لهذه النهضة الأدبية الحديثة عوامل وظواهر متعددة كما قسمها المؤرخون إلى عوامل داخلية وخارجية.
العوامل الداخلية
إنشاء المدارس والجامعات:
قبل النهضة الأدبية الحديثة، كانت الكتاتيب والحلق تقام في المساجد والمدارس مثل الجامع الأزهر، وجامع بني أمية، وجامع الزيتونة وغيرها، وكان يدرس فيها العلماء والفقهاء الأمور الدينية والإسلامية حتى بداية النهضة. ولعب محمد على باشا دورا هاما في نشر النهضة التعليمية إثر غزو نابليون، إذ أنشأ عديدا من المدارس في الطب والهندسة والزراعة والقانون والموسيقي وغيرها. ومنها: مدرسة الطب في عام ١٨٢٧، مدرسة الطب البيطري في عام ١٨٢٨، مدرسة الزراعة بشبرا الخيمة في عام ١٨٣٣، ومدرسة بولاق في عام ١٨٣٤ وغيرها.
وأما الجامعات فهي لعبت دورا ملحوظا في تطوير الجيل الجديد لتلبية متطلبات العصر من خلال توفير التعليم عالي الجودة في مختلف المجالات لكي ينهض العالم العربي مرة أخرى لكي يحيي التاريخ والثقافة والهوية العربية التي فقدناها ولكي يقدر على مسايرة العصر في مجالات مختلفة، مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والطب والاقتصاد والفنون وغيرها. فأنشئت الجامعات في عديد من الدول العربية. ومنها: جامعة القاهرة في مصر، جامعة دمشق في سوريا، جامعة السوربون في لبنان، جامعة الزيتونة في تونس، جامعة العربية في الأردن وغيرها.
إنشاء المطابع:
إن المطابع أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية حيث لا يمكن أن نتخيل هذا العالم الرقمي بدونها، إذ سهلت الوصول إلى جمهور أكبر بأقل تكلفة، وإنها وفرت منصة لمشاركة الآراء والأفكار مع العالم في لمح البصر. وظهرت المطابع في العالم العربي بغزو نابليون على مصر، فاستفاد العرب من هذه المطابع من خلال طبع الموسوعات العربية القديمة والكتب في التفسير والحديث والفقه وغيرها مثل كتاب ”الأغاني“ لأبي الفرج الأصفهاني، و ”العقد الفريد لإبن عبد ربه“، ومقدمة تاريخ بن خلدون وغيرها، كما نشرت الجرائد مثل الوقائع المصرية، الجريدة العسكرية، الوقائع الكريتية وغيرها.
ومن المطابع التي تم إنشاؤها في مصر هي: مطبعة بولاق، مطبعة الطوبجية، ومطبعة الهادية، ومطبعة مدرسة الطب. هكذا ساعدت المطابع في اليقظة الأدبية للعرب، وإحياء التراث العربي القديم، ونشر أمهات الكتب العربية، وفي خلق الشوق والرغبة في الأدب العربي في الجيل الجديد.
إنشاء المعاجم والمجامع:
حين بدأ إنشاء الجامعات، وبدأ الأدباء يؤلفون الكتب ويترجمونها، فيحتاجون إلى ألفاظ ومصطلحات لا يوجد له مقابل في اللغة العربية، ولذا ظهر كثير من المعاجم العربية-الإنجليزية، عربية-فرنسية، عربية-إيطالية وغيرها، لعدة أسباب ومنها: استيعاب مصطلحات جديدة من اللغات الأخرى، تخصيص الألفاظ لمعان دخلت من اللغات الأخرى، واشتقاق لفظ جديد لمعنى جديد وغيرها.
إليك بعض المعاجم العربية-الأجنبية التي ظهرت نتيجة الحاجة إلى ترجمة المصطلحات الجديدة:
- المعجم العربي-الإنجليزي (مثل: قاموس المنجد، المورد القريب، ومعجم إلياس)
- المعجم العربي-الفرنسي (مثل: معجم لاروس، ومعجم روبير)
- المعجم العربي-الإيطالي (مثل: معجم كازيري العربي-الإيطالي)
- المعجم العربي-الألماني (مثل: معجم هانس فير)
- المعجم العربي-الإسباني (مثل: معجم كامب)
والآن احتاج الناس إلى المجامع التي تقيم معايير لغوية لكي يتم تخصيص الألفاظ والمصطلحات بطريقة سليمة معتمدة عليها، فجرت المحاولات للاشتقاق والنحت والتعريب والتحريف للألفاظ. ومنها: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجمع اللغة العربية بدمشق، مجمع اللغة العربية بالأردن، المجمع العلمي العراقي بعراق، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة“ بتونس وغيرها. تضمنت هذه المعاجم الأعضاء من كل دولة لإثراء اللغة العربية ومعاجمها. ومن أبرز الألفاظ التي تم تعريبها:
تلفاز ← (Television)
إذاعة ← (Radio)
هاتف ← (Telephone)
حاسوب ← (Computer)
برمجيات ← (Software)
فيروس ← (Virus)
بكتيريا ← (Bacteria)
جغرافيا ← (Geography)
كيمياء ← (Chemistry)
فيزياء ← (Physics)
دور القادة وزعماء الإصلاح:
وأثناء ذلك، حينما كان الناس يسعون لإحياء اللغة العربية من خلال الأدب والعلوم العصرية، قامت فئة من العلماء الصلحاء ودعت الناس إلى العودة إلى القرآن والسنن النبوية للرقي والازدهار ولمناهضة القوى الاحتلالية. فمن أبرزهم السيد جمال الدين الأفغاني، الشيخ الإمام محمد عبدة، الشيخ علي عبد الرزاق، عبد الله النديم، محمد رشيد رضا، عز الدين قسّام وغيرهم.
العوامل الخارجية
الاستشراق والمستشرقون:
لعب المستشرقون دورا هاما في النهضة الأدبية الحديثة حيث قاموا باسهامات قيمة في عدة مجالات اللغة العربية مثل التاريخ العربي والإسلامي، وعلم الكلام، والشريعة، والفلسفة، والتصوف، وتاريخ اللغة العربية وآدابها، والدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، والنحو العربي، وفقه اللغة العربية وغيرها. والمستشرق هو عالم متخصص في دراسة العالم الشرقي وعلومه ودياناته وأحواله ونشاطاته الفكرية والدينية والسياسية لأهداف مختلفة. إنهم درسوا العلوم الإسلامية والعربية لعدة أسباب ومنها: نقل العلوم والمعارف إلى أوربا، إنشاء الجيل الجديد لأوربا، والهجوم على الإسلام والمسلمين.
فإنهم نقلوا الكتب العربية إلى لغاتهم المختلفة مثل: أطواق الذهب للزمخشري، ملحة الأعراب، ألف ليلة وليلة، مقدمة ابن خلدون وغيرها، كما نقلوا الكتب التاريخية مثل: كشف الظنون، تاريخ الطبري، تاريخ الخلفاء للسيوطي، رحلة ابن بطوطة، سيرة ابن هشام، كذلك نقلوا من الكتب الإسلامية مثل: تفسير البيضاوي، ومشكاة المصابيح، فتح القريب، والدرة الفاخرة، ومقاصد الفلاسفة وغيرها. كذلك كتب عديد من المستشرقين الكتب والموسوعات التي كانت تمتلئ بالأكاذيب والافتراءات عن الإسلام والمسلمين.
كل هذه العوامل حفزت الأدباء والكتاب على أن اكتشاف ارثهم القديم الغني ونشر تراثهم العلمي والحضاري، كما دفعت كثيرا من الأدباء العرب إلى الرد على المستشرقين وتفنيد ادعاءاتهم وتساؤلاتهم الباطلة عن المسلمين.
البعثات العربية:
لعبت البعثات العربية دورا بارزا في النهضة الأدبية الحديثة لا يمكن إنكارها حيث نقلت العلوم والمعارف السائدة من المجتمعات الأخرى إلى العرب. ومن أهم الأسباب والدوافع لإرسال البعثات إلى الدول الأخرى كانت التأثر بالحضارة الغربية والتطورات الموجودة فيها، ولنقل العلوم والفنون من الغرب إلى العرب، وإصلاح النظام التعليمي التقليدي المعتمد على العلوم الإسلامية فقط، إضافة إلى أسباب أخرى، لكي يتمكن العرب من مواكبة متطلبات العصر الراهن.
أرسل محمد علي باشا بعثات تعليمية وعسكرية وغيرها. ومن أهمها: البعثة إلى فرنسا التي كان يزعمها رفاعة الطهطاوي، بعثات الأزهر إلى فرنسا لدراسة العلوم الحديثة كان من بينهم حسن العطار، وبعثات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى الهند وأوربا لدراسة الفكر الإصلاحي الديني وغيرها. قال أحمد هيكل: ” كذلك أرسل محمد علي البعثات إلى أوروبا ، ليقوم أبناؤها فيما بعد بمطالب الجيش ، للتدريس في تلك المدارس التي هي في خدمة الجيش . وقد تعددت البعثات وتنوعت بين هندسية ، وطبية ، وزراعية ، وصيدلية ، وقانونية ، وسياسية ، وكيماوية ، كما كان من البعثات للتخصص في الطباعة ، والحفر ، والميكانيكا وغيرها“.
لعبت هذه البعثات دورا مهما في إحياء اللغة العربية وإثرائها، وتوعية الشعب العربي، ونقل العلوم والمعارف إلى اللغة العربية، وفي إعداد الشباب الذين يسايرون مع متطلبات العصر، ويقدمون فكرة مزجة للتعليم الديني والعصري مما يساعد في نجاح هذه الحركة التنموية.
الترجمة:
عندما عادت البعثات من الدول، وشهدت الناس التطورات الهائلة في العلوم والفنون الغربية، واحتاجوا إلى ترجمة الكتب في الطب والهندسة والقانون والأدب وما إلى ذلك. ونتيجة لذلك، أنشئت المؤسسات والمدارس للترجمة مثل مدرسة الألسن التي أسسها رفاعة الطهطاوي والمجمع العلمي المصري وغيرهما. ومن العلوم التي تم نقلها من خلال الترجمة إلى اللغة العربية هي العلوم العسكرية والهندسية والطب والصيدلة العلوم الفلسفية والاجتماعية، وبالخصوص الفنون والفروع الأدبية بما فيها القصة القصيرة والرواية والمسرحية والمقالات.
مارون النقاش هو أول من أدخل فن المسرح إلى الأدب العربي بمسرحيته ”البخيل“، ومحمد تيمور أول من أدخل فن القصة القصيرة بقصته ”القطار“، ومحمد حسين هيكل أول من كتب الرواية العربية الفنية بروايته ”زينب“. ولا يمكن إنكار أهمية المقالات في العصر الحديث حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ للأدب يعبر فيها الكاتب عن آرائه وأفكاره حول أي موضوع سواء كان علميا، سياسيا، فكريا وما إلى ذلك.
ومن أهم كتاب المقالات مصطفى صادق الرافعي، أحمد أمين، جبران خليل جبران، عباس محمود العقاد، أديب إسحاق، وغيرهم. ومن أهم الكتب التي تمت ترجمتها هي: مغامرات تليماك، تخليص الإبريز في تلخيص باريز على يد رفاعة الطهطاوي، ماجدولين، في سبيل التاج، الشاعر، الفضيلة على يد مصطفى لطفي المنفلوطي، تاريخ العرب قبل الإسلام لأحمد زكي باشا، مسرحيات موليير وشكسبير مثل ”البخيل“ و ”تاجر البندقية“ ليعقوب صنوع، ”الجريمة والعقاب“ و ”الحرب والسلام“ لسامي الدروبي وغيرهم.
الصحافة:
تعد الصحافة من أهم العوامل للنهضة الأدبية الحديثة حيث وفرت منصة للأدباء والكتاب لمشاركة آرائهم ومقالاتهم حول موضوعات شتى بما فيها الأدب والسياسة والفكر الإصلاحي والتربوي وغيرها. فأول مجلة عربية ”الوقائع المصرية“ التي أصدرتها محمد علي باشا كانت تهتم بنشر المقالات الفكرية والثقافية. ثم صدر عديد من الصحائف والجرائد في عدة دول مثل لبنان وتونس وغيرها.
ومن أهم المجالات هي: الأهرام التي أسسها سليم وبشارة تقلا، نشرت فيها أعمال أدبية. جريدة ”المقطم“ التي أسسها فارس نمر، يعقوب صروف، وشاهين مكاريوس. صحيفة ”المؤيد“ أسسها علي يوسف. مجلة المقتطف التي أسسها يعقوب صروف وفارس نمر. كذلك صدرت بعض الصحف والمجلات التي كانت تهتم بشؤون الإسلام والمسلمين مثل ”نور الإسلام“ و ”المنار“ و ”الهدي النبوي“ ومجلة ”الأزهر“. كما صدرت بعض المجلات في الأدب مثل ”الرسالة“ و ”الثقافة“ و ”الهلال“ وغيرها.
الخاتمة:
لا شك أن النهضة العربية الحديثة كانت نقطة تحول في تاريخ الأدب العربي، حيث استطاع العرب استعادة مجدهم الثقافي والحضاري بعد قرون من الركود والانحطاط. وقد ساهمت عوامل داخلية وخارجية عديدة في هذه النهضة، مثل إنشاء المدارس والجامعات، وظهور المطابع، وإنشاء المعاجم والمجامع اللغوية، إلى جانب جهود القادة وزعماء الإصلاح. كما لعب الاستشراق والبعثات العلمية والترجمة والصحافة دورًا محوريًا في تعزيز هذه النهضة، من خلال نقل المعارف والعلوم والفنون الغربية إلى العالم العربي، مما ساعد على تطوير اللغة والأدب والفكر العربي الحديث.
لقد كانت هذه النهضة بوابة العبور والتقدم إلى العصر الحديث، حيث ظهرت أنواع أدبية جديدة مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقال، وساهمت الصحافة في نشر الفكر وتوسيع أفق القرّاء. ولا يزال تأثير هذه النهضة مستمرًا حتى يومنا هذا، حيث تُعدّ الأسس التي أرساها روّادها قاعدة متينة لتطوير الأدب العربي ومواكبة المستجدات الفكرية والثقافية.