المحتويات
المقدمة:
إن العرب لهم دور بارز وتأثير كبير في مجالات مختلفة حيث أرسوا حجر الأساس وتركوا بصمة عميقة في العديد من العلوم والفنون. من المعلوم لدى الجميع أن العالم العربي منذ ظهور الإسلام، وخاصة من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر أصبح من أكثر الحضارات تطورا وانتشارا في العالم. في حين كان الغرب وأوربا يواجهان مشاكل سياسية واجتماعية وثقافية، وكانت تسمى تلك الفترة بالعصور المظلمة إثر تدهور الإمبراطورية الرومانية، وكان العالم العربي ينمو ويزدهر، ممتدا من إسبانيا وإفريقيا الشمالية إلى سوريا وبلاد ما بين النهرين، وكان له دور ملموس في الطب، والرياضيات، والفلسفة، والفلك، والهندسة، والكيمياء، والفيزياء، والعلوم الأخرى، لذا سمي بالعصر الذهبي الإسلامي.
ونظرا لذلك، قال جورج ألفريد ليون سارتون، كيميائي ومؤرخ: “إن التاريخ العلمي للإنسانية لا يمكن أن يكتمل دون الاعتراف بدور العلماء المسلمين، الذين كانوا روادًا في مجالات مثل الفلك، والطب، والرياضيات“. وذكر في مكان آخر: ”إن تاريخ العلوم الحديثة سيبقى غير مكتمل دون معرفة اللغة العربية“.
ومن أبرز العلماء الذين قدموا إسهامات قيمة في مجالات مختلفة:
ابن سينا:
يعد أبو علي الحسين ابن سينا، عالم وطبيب، من أهم وأكثر الشخصيات تأثيرا في مجال الطب والفلسفة. نشأ وترعرع في بخارى، وتبحر في العديد من العلوم والفنون في سن مبكر. لقد قام بدور ممتاز، وظلت كتبه تدرس حتى القرن السابع عشر في العديد من الجامعات والكليات للاستفادة بكل ما كان أنتجه ابن سينا عبر القرون. ويلقب في الشرق بـ”الشيخ الرئيس” و”أرسطو الإسلام” وفي الغرب بـ”أمير الأطباء” و”أبي الطب“.
إنه كتب أكثر من ٣٠٠ مئة كتاب في عدة مجالات ومنها: كتاب الخلاص، كتاب الملاحظات والعتابات، الإشارات والتنبیهات، مختصر اقليدس، مختصر المجسطى، كتاب الفلك وغيرها. ونال كتاباه سمعة طيبة أولهما ” الشفاء“، وثانيهما ”القانون في الطب“، حيث شرح فيه عديدا من الأمراض التي يصاب بها الإنسان في جميع أنحاء جسمه. إنه وصف وصفا دقيقا لعديد من الأمراض مثل أمراض القلب، والتهاب الرئة والسحايا، وطبيعة الأمراض المعدية وغيرها. قال المؤرخ وعالم الطبيعة البريطاني جون هولميارد في (تاريخ العلوم عند العرب) إن: ”علماء أوروبا يصفون أبا علي بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض“.
الخوارزمي:
محمد بن موسى الخوارزمي هو عالم بارز في الرياضيات، والفلك، والجغرافيا، ويُعتبر من أهم العلماء الذين ساهموا في تأسيس علم الجبر والخوارزميات، والتي تُعد الأساس في علوم الحاسوب الحديثة. ولد الخوارزمي في بغداد في عهد المأمون، نشأ وترعرع في بيئة علمية حيث تعلم علم الجبر والفلك والهندسة في دار الحكمة.
قدم الخوارزمي الذي لقب بـ (أبي الرياضيات) و(أبي الجبر)، إسهاماته وانجازاته في عديد من المجالات بما فيها: علم الحساب، والجبر، والفلك، والجغرافيا وما إلى ذلك. ومن أهم مؤلفاته: المختصر في حساب الجبر والمقابلة، صورة الأرض، الجمع والتفريق بحساب الهند، صناعة الأعداد الهندية وغيرها.
أنشأ الخوارزمي علم الجبر، ووضع معادلات رياضيّة تُساوى بالصفر كما طور الخوارزميات التي سهلت عمليات الضرب والقسمة بأساليب سريعة. كذلك ساهم في علم الفلك وقيّم الموقع الدقيق للشمس والقمر والكواكب المختلفة. ونظرا لإسهاماته وإنجازاته قال إي. جي. رايت في (انتقال العلوم العربية إلى أوروبا): ”لولا الخوارزمي، لما عرفت أوروبا الأرقام العربية، ولما تطور علم الرياضيات بالشكل الذي نراه اليوم“.
جابر بن حيان:
يعد جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، مؤسس علم الكيمياء من أشهر علماء العرب، ساهم في علوم الكيمياء، والفلسفة، والطب، والصيدلة وغيرها. ولد بخراسان في عهد الخليفة العباسيّ هارون الرشيد ودرس الكيمياء والطب والرياضة وغيرها من العلوم والفنون. ومن مؤلفاته:كتاب الأسرار، كتاب الشمس وكتاب القمر،كتاب الخواص الكبير، كتاب التجميع، نهاية الاتقان، أصول الكيمياء وغيرها. إنه قام بدور بارز في مجال الكيماء حيث عرّفه ابن حيان في كتابه العلم الإلهي: ”الكيمياء هو الفرع من العلوم الطبيعية الذي يبحث في خواص المعادن والمواد النباتية والحيوانية، وطرق تولدها وكيفية اكتسابها خواص جديدة“.
اخترع جابر بن حيان الحوامض مثل حمض النتريك، الهيدروكلوريك، الكبريتيك الذي سماه ”زيت الزاج“ وغيرها. كما أنه اكتشف العمليات الكيميائية مثل التصعيد، والترشيح، والتقطير، وكذلك طريقة فصل الذهب عن الفضة وما إلى ذلك. ولذا أقبل العلماء إلى أعماله واستفادوا بها. ونظرا لدوره قال عنه العالم الكيميائي الفرنسي، مارسيلان برتيلو: ”إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق“. وكذلك قال أبو بكر الرازي في (سر الأسرار): إن ”جابر من أعلام العرب العباقرة، وأول رائد للكيمياء“.
ابن رشد:
يعد أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد من أعظم علماء الفلسفة والطب والفلك والفقه في التاريخ الإسلامي، وكان له تأثير كبير على الفكر الأوروبي والإسلامي. وُلد في قرطبة بالأندلس في عصر الدولة الموحدية، ودرس مختلف العلوم مثل الطب، والفلسفة، والفقه، والرياضيات، والفلك، والفيزياء. كتب في الفلسفة، والفيزياء، والجغرافيا، والقانون حتى يبلغ عدد مؤلفاته أكثر من ٥٠ كتابا. ومن أهم مؤلفاتها: تهافت التهافت، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مناهج الأدلة، الكليات، المسائل وغيرها. ومن أهم انجازاته مطالعة الأفكار والآراء للفيلسوف أرسطو، والتحليل الدقيق العميق لفلسفته، حتى شرح وترجم العديد من أعماله مثل: تلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة، كتاب البرهان، كتاب النفس وغيرها من الأعمال.
كذلك حاول أن يقارن بين الفلسفة الغربية والفكر الاسلامي لكي يثبت أن الفلسفة لا تعارض الدين الإسلامي، ولهذا كتب (تهافت التهافت) ردا على كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة). قال توما الأكويني، الفيلسوف الإيطالي في (الخلاصة اللاهوتية) إن: ”ابن رشد هو المعلّم الأعظم للفلسفة، ونقل إلينا روح أرسطو الحقيقية“. كما قال الفيلسوف إرنست رينان في (ابن رشد والرشدية): ”لو لم يكن ابن رشد، لتأخرت النهضة الأوروبية قرونًا“.
البيروني:
يعد أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني من أعظم العلماء الذين أسهموا في تطور الرياضيات، والفلك، والفيزياء، والصيدلة، حتى لقّبه المؤرخون بـ “العالم الموسوعي”. وُلد البيروني، الذي أطلق عليه لقب بطليموس العرب، في خوارزم (أوزبكستان حاليًا) خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. أتقن العربية، والفارسية، والسريانية، واليونانية، والسنسكريتية. درس العلوم مثل الفيزياء، والفلك، والرياضيات، والصيدلة وغيرها حتى كتب أكثر من ١٥٠ كتابا في مجالات مختلفة، ومن أهمها: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، القانون المسعودي، الصيدلة في الطب، الآثار الباقية من القرون الخالية، كتاب الهند وغيرها.
ساهم في عدة مجالات بآرائه ونظرياته كما تمكن من تحديد خطوط الطول والعرض بدقة، وطرح سؤالًا مهمًا حول ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا. كما قام بدراسة الوزن النوعي للمواد، ونجح في قياس كثافة ١٨ نوعًا من الأحجار الكريمة والمعادن. ومن اكتشافاته المدهشة أنه أدرك أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت، وهو ما أثبته العلم الحديث لاحقًا. وقال إن الجبال تشكلت نتيجة التغيرات الجيولوجية عبر الزمن بسبب الزلازل والتعرية، وهي فكرة أكدها علم الجيولوجيا الحديث. ووصفه الأميركي جورج سارتون، في كتابه “مقدمة لدراسة تاريخ العلم” قائلا: “لقد كان رحالة وفيلسوفا، ورياضيا وفلكيا، وجغرافيا وعالما موسوعيا، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم“.
الحسن بن هيثم:
يُعد أبو علي الحسن بن الهيثم، رائد علم البصريات والفيزياء من أبرز علماء العرب، حيث قدّم إسهامات بارزة في البصريات، والفلك، والرياضيات. وُلد في البصرة ونبغ في العديد من العلوم والفنون. كتب في المنطق، والفيزياء، والفلك، والبصريات وغيرها. ومن أهمها: كتاب المناظر، ميزان الحكمة، المقالة في ضوء القمر، في تقويم الصناعة الطبية وغيرها. هو أول من أوضح أن الرؤية تحدث نتيجة انعكاس الضوء من الأجسام إلى العين، وليس بسبب أشعة تصدر من العين كما كان يعتقد سابقا. وكذلك لاحظ أن الضوء دائما يسير بخط مستقيم، ويمر عبر ثقب صغير ليشكل صورة مقلوبة على الجدار المقابل مما اخترع فكرة الكاميرا الحديثة.
إنه اقترح أن القمر لا يجعل ضوءًا من ذاته، بل يعكس ضوء الشمس. كما شرح كيفية انتشار الصوت في الهواء، وأجرى تجارب حول سرعة الصوت والضوء. وقال عنه الفيزيائي النمساوي، إرنست ماخ في (تحليل الإحساس وعلاقته بالمفهوم الفيزيائي): ”كل من يدرس البصريات، لا بد أن يبدأ من أعمال ابن الهيثم“. وقال عنه العالم الفرنسي ريجيس موريس في (تاريخ العلوم عند العرب): ”لو لم يكن ابن الهيثم، لما عرفنا الكثير عن قوانين الضوء“.
الزهراوي:
يُعد أبو القاسم الزهراوي، رائد الجراحة الحديثة من أعظم أطباء العرب، ويُعرف بلقب “أبو الجراحة الحديثة”. وُلد في الأندلس، وكرّس حياته لدراسة الطب والجراحة، حتى أصبحت مؤلفاته أساسًا للطب والجراحة في أوروبا والعالم الإسلامي لعدة قرون. وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب مثل: التصريف لمن عجز عن التأليف، رسالة في الجراحة، علاج أمراض النساء والتوليد وغيرها.
إنه كان مولعا بعلم التشريح وملما بدراستها حتى اخترع أكثر من ٢٠٠ أداة جراحية مثل المشرط، المقص الجراحي، والملقط، ومقصلة اللوزتين، ومنشار العظام، والمنظار المهبلى وغيرها. قال دونالدتي كامبل في (الطب العربي وتأثيره في العصور الوسطى): ”اخترع الزهراوي أدوات وتقنيات جراحية لم يسبقها أحد، وكان تأثيره ممتدًا حتى عصر النهضة“.
كذلك اخترع كثيرا من العمليات والطرق الطبية والجراحية في الأمراض المتعددة مثل وقف النزيف وربط الشرايين، وإيقاف الدم من الجروح. إنه أول من صنع خيوطاً من أمعاء الحيوانات لاستخدامها في خياطة الجراح. قال سيغريد هونكه في (شمس العرب تسطع على الغرب): ”لولا الزهراوي، لتأخرت الجراحة الأوروبية قرونًا، فقد كان أول من وضع أسس الجراحة الحديثة بأسلوب علمي دقيق“.
الخاتمة:
لقد ترك العلماء العرب والمسلمون إرثًا علميًا خالدًا لا يزال تأثيره ممتدًا حتى يومنا هذا، فقد كانوا روادًا في مجالات الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة، والفيزياء، والكيمياء، والهندسة، وأسهموا في بناء أسس العلوم الحديثة. ومن خلال التجربة، والبحث، والترجمة، والتطوير، استطاعوا نقل المعرفة إلى العالم، مما جعل الحضارة الإسلامية منارة للعلم خلال العصور الوسطى. لم تكن إسهامات ابن سينا، والخوارزمي، وجابر بن حيان، وابن رشد، والبيروني، وابن الهيثم، والزهراوي وغيرهم من العلماء البارزين مجرد إنجازات فردية، بل كانت حجر الأساس للنهضة العلمية الأوروبية، حيث اعتمدت الجامعات الغربية على كتبهم ومؤلفاتهم لقرون عديدة.
واليوم، ونحن في عصر التكنولوجيا والتطور السريع، لا بد أن نستذكر تلك الإنجازات والإسهامات العظيمة، وأن نستفيد من هذا الإرث العلمي والحضاري، ونذكر الأخرين بالإسهامات التي أنجزها أسلافنا، حتى نتمكن من استعادة الارث الفكري والعلمي الذي كان يومًا من سمات الحضارة الإسلامية. فالعلم لا يعرف حدودًا ولا جنسيات، بل هو إرث مشترك للبشرية جمعاء.