ما هي وظيفة الأدب؟

ما هي وظيفة الأدب؟

”إننا في كل مانفعل وكل ما نقول وكل ما نكتب إنما نفتش عن أنفسنا. فإن فتشنا عن الله فلنجد أنفسنا في الله، وإن سعينا وراء الجمال فإنما نسعى وراء أنفسنا في الجمال، وإن طلبنا الفضيلة فلا نطلب إلا أنفسنا في الفضيلة، وإن بحثنا عن مكروب فلا نبحث إلا عن أنفسنا في المكروب، وإن اكتشفنا سرا من أسرار الطبيعة فما نحن إلا مكتشفون سرا من أسرارنا. فكل ما يأتيه الإنسان إنما يدور حول محور واحد هو – الإنسان. حول هذا المحور تدور علومه، وفلسفته، وصناعته وتجارته، وفنونه. وحول هذا المحور تدور آدابه“.(الغربال لميخائيل نعيمة، ص ٢٥)

الأدب هو مرآة الحياة، وصدى لما يمر بها الإنسان من الوقائع والتجارب، وبيان لأحداث الأمم وتاريخها، وسجل لعادات الشعوب وثقافتها. فإن للأدب دور محوري في حضارة الأمم ورقيها، حيث إن مصدره الإنسان وغايته الإنسان. وتتغير وظيفة الأدب بتغير العصور، فإن لكل عصر متطلبات مختلفة، وتحديات متعددة وضحها محمد مندور في كتابه: 

”نرى الآداب والفنون تختلط في نشأتها الأولى بالسحر ومعتقدات الإنسان البدائي، ثم تنتهي من السحر إلى الدين، حيث نرى فنونا أدبية خطيرة تتولد في كنف الدين، وفي خدمة طقوسه وشعائره ومعتقداته، على نحو ما نشأ فن المسرح في عبادة ديوفيزوس إله الكرم والخمر عند اليونان. ونشأ ما يشبه هذا الفن قبل ذلك في عبادة ايزيس وأوزوريس عند قدماء المصريين. ثم نجد الأدب ينتقل إلى خدمة المجتمع، فيعتبر سجلا تاريخيا لأحداثه الكبرى، حتى قيل إنه السجل الأول لحياة شعب كالشعب العربي، وذلك مع مزاوجته عندئذ بين التعبير عن حياة المجتمع وأحداثه الكبرى، والتعبير عن حياة الفرد وبعض خواره أو عواطفه أو مشاهداته.“ (الأدب ومذاهبه لمحمد مندور، ص ١٨٥)

الأدب ليس هو محض فن تتمتع به الأنفس، ويتلذذ به الأفراد، بل إنه سجل الحضارات، ووثيقة الثقافات، ودفتر الشعوب، يذكر تاريخ الأمم الماضية، ويؤثر المشاعر، ويثير الوجدان، ويحث على المحامد، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ويسمو بعلو النفس، ويمنع عن الرذائل، ويثور على الاستبداد. 

قال ميخائيل نعيمة: ”بين كل المسارح التي تتقلب عليها مشاهد الحياة ليس كالأدب مسرحا يظهر عليه الإنسان بكل مظاهره الروحية والجسدية، ففي الأدب يرى نفسه ممثلا ومشاهدا في وقت واحد. هنالك يشاهد نفسه من الأقماط حتى الأكفان. وهنالك يمثل أدواره المتلونة بلون الساعات والأيام. وهنالك يسمع نبضات قلبه في نبضات سواه ويلمس أشواق روحه في أشواق روح غيره. ويشعر بأوجاع جسمه في أوجاع جسم إنسان مثله. هناك تتخذ عواطفه الصماء لسانا عن عواطف الشاعر. وتلبس أفكاره رداء من نسيج أفكار الكاتب…“ (الغربال لميخائيل نعيمة، ص ٢٦،٢٧)

فمن الوظائف الرئيسية للأدب هي كما يلي:

تهذيب النفوس: فمن أولى وظائف الأدب وأهمها أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويأمر بالاجتناب عن الرذائل والفواحش، لأن الأدب -في معناه الاصطلاحي- هو الدعوة إلى المحاسن والمحامد كما قال أبو منصور الأزهري: ”الأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمي أدبا لأنه يأدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح“. (تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري، ج ١٤، ص ٢٠٩)

فكم رواية قرأناها تدعو إلى القيم والمثل النبيلة؟ وكم قصة طالعناها تذكر الدروس الصالحة للحياة؟ وكم قصيدة سمعناها تتحدث عن الغايات الإنسانية السامية؟ فإن الأدب يهذب النفوس، ويثقف الأفراد، ويغذي العقول. ورأى النقاد الشعر بوجه خاص يحفز على تهذيب النفوس، وتقويم الطباع. كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب. (العمدة في صناعة الشعر ونقده ١ لابن رشيق القيرواني، ص ٢٤)

 ولو ننظر في الشعر العربي، فكثير ما نجد أنه اعتنى بالمحامد الحسنة، والمكارم الشريفة، والدروس القيمة، والنصائح الغالية. مثلا قال زهير بن أبي سلمى في معلقته: 

ومن لا يصانع في أمور كثيرة

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وقال أبو العلاء المعري: 

ألا إن أخلاق الفتى كزمانه

فمنهن بيض، في العيون، وسود

وتأكلنا أيامنا، فكأنما

تمر بنا الساعات، وهي أسود

فلا تحسدن يوما على فضل نعمة

فحسبك عارا أن يقال حسود

سجل الأمم الماضية: يعد الأدب سجلا للأمم الماضية، وتاريخا للشعوب السالفة، كما قيل في الشعر العربي الجاهلي: الشعر ديوان العرب، لأنه يذكر عاداتهم وتقاليدهم، حروبهم وغزواتهم، محاسنهم ومعايبهم. فينقل الأدب الأحداث الماضية، ويبلغها إلى الأجيال القادمة، ويزيدها من العلم والمعرفة عن تاريخ تلك الأمم. قال عبد القاهر الجرجاني : ”ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضين، مخلدة في الباقين، وعقول الأولين، مردودة في الآخرين.“ (دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، ص ١٢)

التعبير عن العواطف: إن الأدب هو أداة قوية للتعبير عن العواطف الداخلية والأحاسيس النفسية، يذكر فيه الكاتب مشاعر الحزن والألم، الفرح والسرور، اليأس والإحباط، ويتقاسم العواطف بطريقة تعكس الخواطر للمجتمع، والمشاعر للجماهير. فإن الأديب يكون حساسا يشعر بما لا يشعر به الآخرون، ويرى فيما لا يراه الآخرون، ثم ينقل أفكاره بتصاوير خلابة وتشبيهات بهيجة تثير وجدان القارئين، وتهز مشاعر السامعين، وتجعل القارئين يشعرون بما شعر به الكاتب حتى تظل عواطفه مشاعرا للآخرين، وصدى للقارئين. قال ميخائيل نعيمة: ”الأدب الذي هو أدب، ليس إلا رسولا بين نفس الكاتب ونفس سواه. والأديب الذي يستحق أن يدعى أديبا هو من يزود رسوله من قلبه ولبه.“ (الغربال لميخائيل نعيمة، ص ٢٧)

مرآة المجتمع وصدى وروحه: يعد الأدب بيانا للمجتمع الذي يتعلق به الأديب، وتعبيرا عن الشعب الذي ينتمي إليه، فإن الأديب أو الشاعر يمثل مجتمعه، ويذكر عن محاسنه، ويدافع عن قومه. بين ابن رشيق القيرواني أهمية الشاعر في العصر الجاهلي:

”كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنه حماية لأغراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم…“ (العمدة في صناعة الشعر ونقده ١ لابن رشيق القيرواني، ص ٣٢)

قال عمرو بن كلثوم في معلقته: 

ونحن الحاكمون إذا أطعنا

ونحن العازمون إذا عصينا

ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

وقال أحمد شوقي في قصيدته ”حادثة دنشواي“: 

مرت عليهم في اللحود أهلة

ومضى عليهم في القيوم العام

كيف الأرامل فيك بعد رجالها

وبأي حال أصبح الأيتام

عشرون بيتا أقفرت وانتابها

بعد البشاشة وحشة وظلام

جمال الطبيعة والحياة: الأدب عامل قوي ومؤثر في أن تخوض في جماليات الحياة، وتلذذ بمكامنها، وتتنزه في مخابئها، وتتمتع بكل ما يتوافر في هذا الكون من الروعة والجمال، والحسن والكمال. فيقرأ كثير من الناس الأدب لكي يهربوا عن الواقع، ويفروا من المصائب والآلام، ويبتعدوا عن الهموم والأكدار. لأنهم يجدون في الأدب وسيلة للفرح، ودواء للهموم، وسلوى للأحزان. فهم يبتعدون عن العالم الواقع، ويغرقون في عالم آخر، ويستمتعون بجمال الطبيعة والحياة.

 قال أحمد أمين: ”الأدب يخاطب العاطفة لا العقل وحده، كما هو الشأن في الموسيقي والتصوير والنقش، إنما الذي يخاطب العقل وحده هو العلم لا الفن، فالقصيدة من الشعر، والوردة في غصنهان والقمر في سمائه، والجبل المعمم بالثلج، والتمثال المحكم الأنيق، والبناء الشامخ المشيد، والقطعة الموسيقية الجيدة التوقيع، ووجه المرأة الحسناء، والرواية الحسنة، والقصة الحلوة، كلها نسميها جميه جميلا وكلها يخضع لقوانين الجمال.“ (فيض الخاطر لأحمد أمين، جزء ١٠، ص ٤١)

عماد النهضات السياسية والاجتماعية والثقافية: يعد الأدب ركنا متينا وعمادا قويا للنهضات السياسية، والتغييرات الاجتماعية، والثورات الفكرية، فالأديب يثور على الظلم والفساد، ويحث على النضال ضد القوى الاستبدادية، ويعالج القضايا الثقافية والفكرية في المجتمع، ويدعو إلى العدل والمساواة، ويحرض على تطور الأفق الثقافي والفكري للمجتمع. فكثيرا ما نجد من الشعراء، والروائيين يثورون على الظلم والفساد السائد في المجتمع من خلال أشعارهم الثورية، ورواياتهم المؤثرة، وخطبهم الحماسية المجلجلة.

 قال معروف الرصافي

هذي حكومتنا وكل شموخها

كذب، وكل صنيعها متكلف

علم ودستور ومجلس أمة

كل عن المعنى الصحيح محرف

أسماء ليس لنا سوى ألفاظها

أما معانيها فليست تعرف

وخلاصة القول: إن الأدب هو تعبير صادق عن التجارب الإنسانية، وبيان للمشاعر الداخلية، ووسيلة لتهذيب النفوس، وسجل للأمم الماضية. فيعبر الأدب عن الشعور الإنساني، ويقدم المثل العليا، ويسمو بمكارم الأخلاق. وهكذا يقوم الأدب بدور فعال في تطور المجتمع ورقيه، كما يظل عمادا قويا في تثقيفه.

المصادر والمراجع: 

  1. أحمد الشايب، أصول النقد الأدبي
  2. عز الدين اسماعيل، الأدب وفنونه دراسة ونقد
  3. أحمد أحمد بدوي، أسس النقد الأدبي عند العرب
  4. محمد مندور، الأدب ومذاهبه 
  5. ميخائيل نعيمة، الغربال 
Scroll to Top