شاد فأعلى وبنى فوطدا
لا للعلا ولا له بل للعدى
مستعبد أمته في يومه
مستعبد بنيه للعادي غدا
إني أرى عد الرمال ههنا
خلائق تكثر أن تعددا
صفر الوجوه ناديا جباههم
كالكلإ اليابس يعلوه الندى
محنيه ظهورهم خرس الخطى
كالنمل دب مستكينا مخلدا
الشاعر: قصيدة ”الأهرام“ التي كتبها الشاعر لبناني الأصل، والأديب الكبير خليل مطران، شاعر القطرين، وشاعر الأقطار العربية، تعد من أهم القصائد وأشهرها التي كتبها حول التحرر والطغيان. خليل مطران (١٨٧٤م ـ ١٩٥٩م) من كبار الكتاب والشعراء في العصر الحديث حيث يتفق معظم الكتاب والنقاد على أنه أول من دعا إلى التجديد في الشعر العربي، وحاول أن الشعر يكون مطيعا له بدلا من أن يكون عبدا للشعر. ولذا يشبه أبي تمام الذي سلك مسلك التجديد في مواجهة الشعر العمودي. كان يطلع خليل مطران على الآداب المتعددة، ويتعمق في الثقافات المختلفة، مما ساهم في إثراء أدبه طابعا جديدا ممتزجا من الآداب والثقافات المختلفة.
خليل مطران شاعر الوجدان حيث أثرت المشاعر والأحاسيس الداخلية في أشعاره، كذلك هو شاعر الحرية والتمرد حيث ثار على الظلم والفساد، وناهض المستعمرين، وكافح ضد الطغاة. كتب محمد مندور:
”كان مطران من شعراء الحرية الذين يعشقونها وتثور أنفسهم من كل طغيان أو استبداد. ولقد ثارت نفسه لطغيان العثمانيين وطغيان بعض الحكام المصريين…واختار القصص التاريخي أو الخيالي وسيلة للتغني بالحرية والبطولة والتمرد على الظلم أو إظهار قحة الاستبداد وتنكره لكافة القيم الإنسانية الرفيعة.“ (محاظرات عن خليل مطران، محمد مندور، ص ٢٦)
تتعدد القضايا في أشعار خليل مطران، مثل المديح، والغزل، والهجاء، والرثاء وغيرها، ولكن استقر شعره على الحرية والتمرد، واهتم بقضايا الظلم والطغيان، وثار على الطغاة والظالمين. أصدر الأديب اللبناني رئيف خوري، ديوانا باسم ”الطغاة“ يضم قصائد خليل مطران، دعا فيها إلى الحرية والاستقلال، وثار على الظلم والطغيان، وكافح ضد الطغاة لعصره وعصور السالفة. ومن قصائدها: الأهرام، نيرون، فنجان قهوة، حرب غير عادلة ولا متعادلة، في ظل تمثال رعمسيس وغيرها.
ذكر عميد الأدب العربي طه حسين عن عمقه في الثقافات، وتعدده في الموضوعات، وبراعته في المعاني:
”لم يقصر شعره على الموضوعات التي تعود الشعراء أن يقصروا شعرهم عليها، فهو لم يؤثر شعره بالمديح والهجاء والرثاء وحدها، وهو لم يقصر شعره على الأحداث السياسية التي كانت تحدث في مصر أو في الشرق وحدها؛ ولكنه تجاوز العالم العربي إلى العالم الغربي، وتناول الكثير من موضوعاته المختلفة قديمها وحديثها، فهو لم يكن إذن واسع الثقافة بعيد الأفق فيما علم من العلم والأدب فحسب، ولكنه كذلك كان بعيد الأفق في الموضوعات التي طرقها من فنون الشعر، وهو من هذه الناحية لا نكاد نجد له مناظرا في شعراء العرب المعاصرين.“ (تقليد وتجديد، طه حسين، ص ٦٥)
الشرح للقصيدة: تحدث خليل مطران في هذه القصيدة عن الأهرام وهدف بنائها، يقول إن هذه الأهرام التي يرتفع طولها إلى السماء، وتبلغ جذورها إلى داخل الأرض، لا تبنى للمجد، ولا تُشَيّد للشرف، ولكنها في الحقيقة شيدت للأعداء، حيث أصبحت سببا للهجوم والغارات، وغدت آية من آيات العبودية والرقاب، لأن الفراعنة استعبدوا الشعب في يومهم بعد أن أجبروهم للعمل ليلا ونهارا، وتركوهم عبيدا للملوك والطغاة الذي يهجمون عليهم في المستقبل بسبب هذه الأهرام.
فإن عدد العمال والناس الذي لا يعد ولا يحصى يشبه عد الرمال، يبذلون قصارى جهودهم في بناء هذه الأهرام، واصفرت وجوهم بسبب التعب والشحب، وابتلت جباهم، وأصبحوا كالعشب الجاف الذي يعلوه الندى، وانحنت ظهورهم بسبب كثرة الثقل، وانكسرت أرجلهم حتى غدوا كالنمل الذي يدب ويمشي ببطء خاضعا مطيعا في الذل المبين.
فهؤلاء الهلكى الميتون يبنون هذه الأهرام للشخص الذي يفنى ولا يخلد، فيا أيها الطغاة الظالمون النائمون قوموا وانظروا الناس الذي يطؤون رؤوسكم، ويدوسون هاماتكم، انظروا الأعداء الذين سيطروا على بلادكم ويحكمون بكل جبر واستبداد، انظروا أجسادكم ملقاة معروضة أمام الناس كمشهد جميل لمن يطيب له المشهد، فإنكم تسألون عن ما قدمتم وما خلفتم، ولا تغنيكم هذه المباني الشامخة، والقصور العالية إلا اهتديتم وسلكتم الصراط المستقيم. فإن الذي زعم أن القبر يقيه من الحساب والكتاب، وزعمه حرزا له، فقط أخطأ ويجزى به.
الفكرة الرئيسية: الأهرامات المصرية تعد من عجائب الدنيا، وروائع العالم، أدهشت العالم ولا يزال يعجب بها العالم ويندهش بها. فمعظم الأدباء والشعراء تعجبوا بالأهرامات، وافتخروا بذكرها، واعتبروها مكانا للفخر والاعتزاز. كما قال أحمد شوقي:
لله أنتِ فما رأيت على الصَّفا
هذا الجلال ولا على الأوتاد
لكِ كالمعابدِ روعة قدسية
وعليكِ روحانيةُ العبَّاد
أُسِّسْتِ من أحلامهم بقواعدٍ
ورُفِعْتِ من أخلاهم بعِماد
تلك الرمالُ بجانبيك بقية
من نعمة وسماحة ورَماد
ولكن وصفها خليل مطران بأنها سبب للظلم والاستبداد، وقهر على الشعب، وآية من العبودية، ورمز من الرقاب. يرى خليل مطران أن هذه الأهرامات ليست هندسة معمارية، أو مكانا للشرف والعلو، بل إنها مجرد قبور، ورمز من العبودية والرقاب. يتعمق في بناء هذه الأهرامات ويقول إنها لا تمثل مجدا أو شرفا، بل ترمز إلى الجهود التي بذلها العمال في بناء هذه الهياكل، والمعاناة والمشاكل التي واجهوا بها من الموت والجوع. فإنها هيكل شيد على تضحيات العمال، ومجاهدات المعماريين.
فيدعوا الشاعر خليل مطران الأمة الإسلامية أن تفهم حقيقة المجد والشرف، فإن الشرف ليس في المعالم التاريخية، أو المباني الشامخة، أو القصور المزخرفة، بل يكمن الشرف والمجد في القيم العالية، والمكارم الرفيعة، والخلق السامية.
انظر أيضا:









